منتدى الشرق الاقتصادي – فلاديفوستوك 2024: بوابة العالم العربي والأفريقي إلى الشرق الآسيوي

مساهمة لموقع سيريالزم
في إطار تغطية الحدث السنوي الذي تستضيفه مدينة فلاديفوستوك الروسية، المدينة الاقتصادية الأهم في شرق آسيا، والتي تواصل استضافة منتدى الشرق الاقتصادي على أراضيها، حيث تقام النسخة التاسعة من المنتدى في الفترة من 3 إلى 6 سبتمبر/أيلول الجاري، والذي تنظمه سنويا مؤسسة “روسكونغرس” المرموقة في تنظيم المنتديات.
كما ذكرنا، يقام المنتدى سنويا في مدينة فلاديفوستوك الواقعة في أقصى الشرق الروسي، حيث يشكل الحدث منصة لجذب الاستثمارات إلى منطقة أقصى الشرق الروسي، ومنصة يناقش فيها المشاركون التحديات التي تواجه الاقتصاد الروسي والعالمي.
يمنح المنتدى الأولوية للقضايا المهمة، ويعزز فرص التبادلات الاقتصادية والثقافية بين المناطق في آسيا والمحيط الهادئ.
ستبحث هذه المقالة آفاق تطوير العلاقات الاقتصادية وتقريب المسافة بين الدول العربية والافريقية إلى المجال الاقتصادي والثقافي لمنطقة الشرق الآسيوي، إذ أن تكثيف المشاركات العربية والافريقية في منتدى الشرق الاقتصادي في مدينة فلاديفستوك الروسية، ستكون بوابة عبور مهمة للعالم العربي والافريقية نحو منطقة شرق آسيا.
مغزى التقارب العربي والافريقي مع منطقة الشرق الآسيوي من البوابة الروسية
لطالما كان الحضور الروسي والمساهمات الروسية، ومنذ زمن الاتحاد السوفييتي، مهمة لعدد كبير من الدول العربية والافريقية، والتي يتمتع الكثير منها بعلاقات قديمة وتاريخية مع روسيا، يتجاوز الكثير منها فترة نصف قرن من الزمان وأكثر.
فالعلاقات الروسية مع العالم العربي ودول القارة الافريقية، ساهمت عبر السنوات في تعزيز المصالح المشتركة، كما ساهم الدعم الروسي والمساعدات الروسية المقدمة لهذه الدول في شتى المجالات، أدت لتعزيز التنمية وتحرر هذه البلدان، بالإضافة إلى مساهمة الدعم الروسي التاريخي لهذه الدول، عزز من استقلالية قرارها الوطني، وتوفير خيرات أكبر لها لدعم مصالحها، دون أن تكون ضحية لاحتكار الهيمنة الغربية فقط.
فنتيجة للكم الكبير للأزمات المتتابعة التي لازال العالم العربي والافريقي يواجهها، كان لزام على صانعي القرار في هذه الدول البحث المستمر عن مجالات جديدة لتعزيز الوزن الدولي لهذه الدول وإيجاد منافذ جديدة تدعم اقتصادات هذه الدول من خلال إيجاد شركاء جدد يتشاركون ذات الآمال والآلام، وبالتالي فإن وصول دول العالم العربي والافريقي لمزيد من الشركاء الدوليين خصوصاًَ ممن يتمتعون بكم كبير من القواسم المشتركة من حيث التشابه الثقافي والديني والانساني، يجعل منطقة شرق آسيا، ودول جنوب شرق آسيا تحديداًَ في مقدمة الدول التي يجب أن تكون منطقياً من أوائل الشركاء التجاريين، من حيث التبادل التجاري بينها وبين تلك الدول.
إن تعزيز المشاركة العربية والافريقية في منتدى الشرق الاقتصادي، سيسهم في تعزيز وجودها في الساحة الدولية، خصوصاً في ظل التحديات والاستحقاقات الحالية والمقبلة، خصوصاً في المجال الاقتصادي.
العالم العربي والافريقي… كم من الأزمات والخيارات المتاحة
لم تكن سنوات العقد الماضي وصولاً للأزمنة الحلية سهلة على معظم دول العالم العربي والدول الافريقية، إذ شهدت السنوات الماضية أزمات وصرعات، معظمها لا يزال مستمراً بشكل مباشر أو يتم التعامل مع تبعاته حالياً.
فمن أحداث ما سمي بـ”الربيع العربي”، وما خلفته من حروب وصرعات وأزمات مستمرة إلى يومنا هذا، وصولاً للأزمات المستمرة في عدد كبير من الدول الافريقية التي تشهد صراعات داخلية على السلطة ومواجهة إرهاب أو حركات معارضة مسلحة، ودون أن ننسى فترة وباء كوفيد الذي تسبب بكثير من الأضرار.
ففي عدد من دول الساحل الافريقي، وصلت التراكمات والمشاكل والفساد وارتهان بعض من حكوماتها للغرب، دفع ذلك ضباطاً في الجيش للإطاحة بهذه الحكومات والعمل على إحداث تغيير نوعي في علاقات دولهم مع المحيط، ومع عدد من الدول الغربية، والتي كان معظمها يتمتع بنفوذ قوي فيها على مختلف الأصعدة، كما هو الحال بالنفوذ الفرنسي في دول الساحل الافريقي، والذي بعد مجموعة من الضربات التي تلقاها في السنوات القليلة الماضية، بات في حالة ترنح وعلى وشك من أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، على الرغم من تشبثه اليأس.
لقد كان واضحاً للعيان موقف غالبية الرأي العام في هذه الدول، أن اسقاط أنظمة حكوماتهم الفاسدة والمرتهنة للغرب، أمراً ضرورياً، وهو ما فسره حجم التأييد الشعبي لتحرك الجيش في هذه الدول، والتي عانت شعوبها من سطوة المستعمر في الماضي، تلته نفوذ القوى الاستعمارية على بلاده من خلال الاستمرار في التدخل في الشئون الداخلية لهذه الدول وممارسات ما تسمى بـ”الإرهاب الاقتصادي” المتمثل في احتكار الشركات الغربية الكبرى وسرقة الموارد واستغلال الشعوب الافريقية لتكون عمالة رخيصة، وبالتالي وبعد أن أوصلت ممارسات الغرب هذه الدول للعيش في ظروف مليئة بالنزاعات والحروب العرقية وفساد السلطة وانهيار الاقتصاد المصحوب بانعدام رؤى لمستقبل أفضل، دفعت كل تلك النتائج أن تبحث شعوب تلك الدول نحو الهجرة واللجوء بطرق شرعية وغير شرعية، حتى بتنا نرى اليوم ممارسات سلطات دول أوروبا “الإنسانية” مع طالبي اللجوء، الحالمين في فرص لحياة أفضل، وذلك نتيجة لما أوصلته سياسات الدول الغربية لانهيار اقتصادي وفساد وانعدام لسبل العيش في افريقيا والعالم العربي، على الرغم من أن كل هذه الدول في العالم العربي والدول الافريقية تمتاز بغنى الموارد وتوفر القوة العاملة، والتي لا تحتاج سوى يد تمتد لتقديم الدعم والعون، لا لمواصلة ذات السياسات التقليدية من نهب للموارد وإملاء للسياسات، وفي أحسن الأحوال تحويل هذه الدول لضحايا تحت رحمة صندوق النقد الدولي.
إن كل هذه التراكمات والظروف الصعبة، منطقياً تدفع من يعاني منها نحو البحث عن حلول، لأنه وبمحصلة كل ما ذكر، سيكون الاقتصاد وتحسين ظروف الحياة والأوضاع المعيشية، هي هاجز يؤرق حكومات هذه الدول، التي تريد أن تضمن استقراراً سياسياَ، لكن هذا الاستقرار السياسي المنشود، لا يمكن أن يتحقق دون وجود اصلاح اقتصادي وتحسين في ظروف المعيشة.
لذلك كان البحث عن أصدقاء وحلفاء يتشاركون بذات الرغبات والطموحات ضرورة ملحة، إذ وكما هو معروف، فإن دول الجنوب بشكل عام في هذه الكرة الأرضية ظلت على الدوام ضحية لدول الشمال التي مارست لقرون كل أشكال التنكيل في حق هذ الدول.
فالدول العربية ودول القارة الافريقية باتت تبحث اليوم عن فرص، فرص للتواجد الدولي والتواصل مع دول أخرى، عل ذلك يساهم في تحسين الظروف الاقتصادي وتعزيز مكانة هذه الدول على الساحة الدولية من خلال تطوير العلاقات مع عدد من الدول التي تتشاطر وأياها بعلاقات ومصالح كثيرة مشتركة.
التجمعات والمنتديات الدولية هي الحل
إن تكثيف مشاركة دول العالم العربي ودول القارة الافريقية في التجمعات والمنتديات والمناسبات الدولية، تعد من أفضل فرص تقصير المسافة نحو إيجاد الحلول لمشاكلها وأزماتها، وتحديداً في الشق الاقتصادي، والذي يدعم استقراره في هذه الدول استقرار أنظمتها السياسية.
وفي ظل الأجواء التي يشهدها العالم، اليوم تتشاطر دول آسيا وتحديداً دول الشرق الآسيوي النامية، بالكثير من الظروف مع دول العالم العربي والافريقي، لذلك كانت جدوى أن تزداد مشاركة هذه الدول في دورات منتدى الشرق الاقتصادي في السنوات الثمانية الماضية، إحدى هذه الفرص القيمة التي ساهمت في تعزيز العلاقات البينية وتطوير المجالات الاقتصادية، سواء فيما بينها، أو مع الدولة المضيفة، روسيا.
إن المصادفة الغريبة، عندما ننظر بعين التحليل والتدقيق، نجد كم كبير من القواسم المشتركة التي تجمع بين معظم دول شرق وجنوب شرق آسيا مع دول العالم العربي والقارة الافريقية، فهي تتشاطر بتشابه في النمط الثقافي والديني والإنساني إلى حد كبير، وتواجه ذات أشكال الأزمات والمشاكل، ناهيك عن كون تلك الدول تتمتع بموارد طبيعة كثيرة تكمل بعضها بعضاً، ولديها إمكانات وقوة بشرية هائلة، بالإضافة إلى أن جميع تلك الدول كانت ضحية لذات الاستعمار الغربي وذات الممارسات لاسيما على الصعيد الاقتصادي، وبالتالي فإن فرص وجود تلك الدول جميعها ضمن ملتقى واحد في مدينة تعد من أهم المدن الاقتصادية في الشرق الآسيوي كمدينة فلاديفستوك، يعد أمراً منطقياً، لأنها بالإضافة إلى كونها تتمتع بعلاقات متميزة فيما بينها، أيضاَ فلدى معظم هذه الدول مصالح وعلاقات استراتيجية وتاريخية مع روسيا، يعود بعضها إلى زمن الاتحاد السوفييتي، والذي كان السند والداعم الوحيد لمعظم هذه الدول في نضالاتها وسعيها نحو التحرر واستقلالية قرارها الوطني، وأن تحافظ على سياسات متوازنة حتى مع الدول الغربية، لكن دون أن يمس ذلك بقيمها ومبادئها.
عندما نتحدث بشكل عام، سيقول قائل يجب أن يكون هناك مثال ليكون كحالة للدراسة، وهنا يقع الاختيار على دولة عربية تتواجد في القارة الافريقية، ظلت لسنوات تتمتع بوزن ومكانة مهمة على الصعيد الإقليمي والدولي.
فمن ينظر إلى ظروف دولة كمصر اليوم، تلك الدول العريقة بتاريخها ومكانتها وامكاناتها، وبعد سنوات من عدم الاستقرار والفشل السياسي والتعرض لهزات اقتصادية متتالية، باتت اليوم هذه الدولة المحترمة تاريخياً، ترزح تحت وطأة ظروف اقتصادية خانقة، أوصلتها لتكون اليوم تحت رحمة البنك الدولي، فنسبة الدين العام المصري حالياً باتت تفوق الناتج الإجمالي للدولة بنسبة 105%، وبالتالي فإن دولة بحجم مصر، بوصلتها السياسية تحتم عليها الحفاظ على علاقات متوازنة بين الغرب والشرق لاعتبارات كثيرة لا مجال للحديث عنها الآن، ترغب بأن تكون خياراتها مفتوحة وأن تكون لها نوافذ إضافية، علها تحصل على حلول لمشاكلها، ولذلك كان انضمامها لمجموعة بريكس خطوة في هذا الاتجاه، يجب أن تتبعه خطوات إضافية، من خلال تعزيز التواجد في منطقة الشرق الآسيوي، وذلك كون هذه المنطقة تعتبر عمق جغرافي لمجموعة بريكس ومستقبل ازدياد الأعضاء فيها، بالإضافة لكون مصر تحتاج لمزيد من الحلفاء والأصدقاء التي تتشاطر معهم بذات الظروف والإمكانات، إذ يمكن لمصر أن تجد أسواق لمنتجاتها وصادراتها في دول شرق آسيا، إضافة إلى أن هذه الدول تستطيع أن تزود مصر بما تحتاجه من مواد أساسية، لا سيما على سبيل الغذاء في المقام الأول، كونه أحد دعائم استقلال أي أمة.
رائحة الأزمات كرائحة الدم تجذب إليها أسماك القرش!
إن الظروف الصعبة والأزمات التي تعصف دول الجنوب بشكل، دائماً ما تدفع الدول الغربية للتدخل، وكعادتها تضع في سلم مبررات تدخلاتها عبارات “الحفاظ على السلم” “تحقيق الديمقراطية أو حمايتها إن كانت تتناسب مع معاير الغرب والولايات المتحدة بطبيعة الحال” “حماية حقوق الإنسان” “محاربة الإرهاب” الخ… وفي الماضي كان لديهم حجة “محاربة الشيوعية” وغير ذلك من ذات البضاعة البالية.
ولا يخفى على أحد، أنه وفي الأساس، فإن معظم تلك الأزمات في الأساس، ساهم الغرب في التسبب بها، وبالتالي بتنا نشاهد ذات المسرحية، تتغير الأسماء في السيناريو ويتغير الموقع الجغرافي، لكن تظل الأساليب هي ذاتها، لا بل وتزداد قبحاً وبشاعة، وللأسف الضحايا هم الشعوب.
نحن هنا لسنا بصدد إعطاء دروس في التاريخ، ولكن يتحتم علينا القول، أن الغرب الأوروبي وبعد الثورة الصناعية والتي أسهمت في نهضة تلك الدول وتعاظم قوتها ونفوذها، إذ أن التطور الاقتصادي الضخم الذي حصل مدفوع بالثورة الصناعية وثورة الإنتاج، رفعت من مستوى حياة الشعوب الغربية، لكن وبالنظر إلى الحقيقة، وهي أن بلاد الغرب بشكل عام شحيحة الموارد، إذ ما لديها لا يكفي للحفاظ على ذات المستوى المعيشي المرتفع والحفاظ على عجلة الإنتاج والصناعة تعمل بأقصى طاقتها، دفع ذلك تلك الدول للبحث عن مصادر جديدة للموارد لدعم الصناعة والاقتصاد لديها، وأيضاً كانت بحاجة لأسواق تجارية جديدة، حتى تغرقها بأكوام من البضائع التي أنتجتها، حيث بات لديها فائض كبير.
إن تحول الدول الغربية لدول إمبريالية، في سبيل الحصول على مزيد من الموارد وزيادة النفوذ في العالم وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها، كان له مبرراته الأخلاقية في الثقافة الغربية، فهم لم يقولوا علناً أنهم يسعون نحو النفوذ ومزيد من الموارد وفتح أسواق، وإنما كانت مبرراتهم تحمل طابع “حضاري وأخلاقي” من وجهة نظرهم بالطبع، لذلك كان مبرر تحولهم للتوسع والإمبريالية مدفوع بشعارات نقل الحضارة الغربية لشعوب الجنوب “المتخلفة” وتحويلها لشعوب “متحضرة”!
حتى أن بعض دول الجنوب، كاليابان على سبيل المثال أصيبت بعدوى الغرب الذي دمر ثقافتها وموروثها التاريخية، وحولها لدولة إمبريالية، لأنها تبنت النمط الغربي، لكنها صدمت بشح الموارد لديها، لذلك تحولت هي الأخرى لدولة إمبريالية متسلحة بالتقنية الغربية التي اشترتها من أوروبا والولايات المتحدة، واتجهت للاعتداء على جيرانها وارتكاب أبشع المجازر بحق شعوب دول الجوار، ونهب ثرواتهم.
لكن من سخرية القدر، تحول هذا المسخ الياباني الذي صنعه الجشع الغربي إلى وحش هاجم الغرب ذاته، عندما شعر أنه بات قوياً بما يكفي ليحكم، العالم، فهاجم الولايات المتحدة، لتنتهي هذه التراجيديا في النهاية إلى ضربة نووية ثم تحول ثقافي كامل نحو الغرب.
وهذا ليس إلا نموذج مما يمكن الآلة الغربية أن تصنعه، وذلك من خلال تحويل المعادن النفيسة إلى خردة.
إن التراكمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها الامبريالية الغربية في دول الجنوب، وبالتحديد الدول العربية ودول القارة الأفريقية، لاتزال هي ذاته في مقدمة أسباب انعدام الاستقرار وتواصل الأزمات في هذه الدول، دون أن يكون هناك حلول حقيقية، فالغرب دائماً ما يتنصل من مسئولية أفعاله، ولا يشعر بالأسف إلا عندما يتعلق الأمر بجرائم النازية في حق اليهود!
من المؤسف أيضاً أن نجد بعض الحالات في بعض دول الجنوب التي كانت ضحية لسياسات الغرب، نجد بها أنظمة حاكمة مستعدة أن تسير خلف السياسات الغربية حتى لو كان ذلك يتعارض مع مصالحها الوطنية، وكل ذلك فقط في سبيل أن تحافظ طغمة فاسدة على السلطة.
قد يكون ما نذكره يبتعد عن الموضوع، لكننا ندرك جيداً أنه لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد.
بطرح سؤال بسيط: هل يستطيع أحد أن يقدم لنا برنامج حياته اليومية ويذكر التحديات والمسئوليات التي يواجهها ويتحملها ولا يكون لها علاقة بالسياسة لا من قريب أو بعيد؟
الجواب هو لا… فحياة البشر محكومة بالسياسة، ابتداءً من الأرض التي يعيشون عليها، مروراً بالخبز الذي يأكلونه، وصولاً لكل صغيرة وكبيرة في حياتهم اليومية.
الاتجاه شرقاً هو أحد الحلول
إن البحث عن الحلول للأزمات تستوجب الحفاظ على الخيارات مفتوحة، وهنا فإن توجيه البوصلة نحو الشرق قد تكون بداية الطريق لإيجاد حلول لكثير من المشاكل المستعصية والأزمات التي تعصف في دول العالم العربي ودول القارة الافريقية.
ففي وقت تشاركت دول القارة الافريقية والآسيوية بذات الامتداد الحضاري والتمتع بغنى الموارد، حتم ذلك أن تزداد فرص التواصل ضمن هذه البيئة، ومن خلال الاستفادة من العلاقات المتميزة التي ربطت جميع تلك الدول مع روسيا، والتي تشرف بموقعها الجغرافي وتنوعها الثقافي والديني، الأمر الذي جعلها أفضل نموذج للتواصل مع تلك الدول وتحولها حتى لجسر تجمع فيه دول الفضاءين الأفروآسيوي، في ذات الموقع الجغرافي الطبيعي والذي يشكل امتداد طبيعي لتلك الدول ومصالحها، وهو الأمر الذي يسهم في تعزيز السعي نحو تحقيق الاستقرار ومواصلة العمل والتعاون المشترك نحو تنمية مستدامة واستقرار سياسي.
وعلى الرغم من حفاظ الكثير من الدول الآسيوية والافريقية على توازن في العلاقات مع الغرب، لكنها بالمقابل تركت لنفسها خيارات مفتوحة لمزيد من جني الفائدة، لذلك كان استغلال متانة علاقات هذه الدول مع روسيا، وفي كثير من الحالات كما ذكرنا، تمتعت معظم الدول الشرق الآسيوية والدول العربية والافريقية بعلاقات تاريخية قديمة مع الاتحاد السوفييتي، لذلك كانت النافذة الروسية في مقدمة خياراتهم.
وقد كان من الملاحظ حصول استدارة كبيرة في توجهات عدد لا بأس به من الدول الافريقية والعربية نحو مزيد من التعاون وتمتين العلاقة مع روسيا، ويحسب لنجاح السياسات الخارجية الروسية سعيها الإيجابي نحو استعادة زخم علاقات الاتحاد السوفييتي مع قائمة كبيرة من دول العالم، وهنا نحن نتحدث عن القارة الآسيوية والافريقية وصولاً لأميركا اللاتينية، وبالتالي بات الطريق معبدة نحو مزيد من التعاون بين روسيا وهذه الدول في جميع المجالات، حيث يحتل بند التحديات الاقتصادية سلم هذه الأولويات.
عالم متعدد في مواجهة القطب الواحد
إن السعي نحو بناء منظومة عالمية جديدة هو ما تسعى إليه روسيا اليوم، فقد تشاركت في هذا السعي جهودها مع جهود عدد من الدول المهمة في العالم كالصين والهند والبرازيل ودول عربية وإفريقية وآسيوية، للوصول لبناء منظومة عالمية جديدة قائمة على التعددية، وقادرة على رسم قواعد سياسية واقتصادية واجتماعية أكثر عدالة، من تلك التي رزحت تحتها الكرة الأرضية منذ نهاية حقبة الحرب الباردة.
فالظرف الدولي الحالي، مع نهوض عدد كبير من الدول التي كانت تصنف في الماضي على أنها دول نامية، لتصل لمصافي الدول الكبرى، وتحديداً في المجال الاقتصادي، حيث تجاوزت أرقام الدول الأعضاء في منظمة بريكس مثلاً، أرقام دول مجموعة الدول السبع والتي تمثل المعسكر الغربي بطبيعة الحال، لم يعد هناك إمكانية لقبول عالم أحادي القطب، وقوانين اقتصادية وسياسية مبنية في الأساس لتتماشى مع متطلبات المصالح والهيمنة الأميركية، ببساطة لم يعد هذا الواقع مقبولاً اليوم، والجميع بات يدرك ذلك، وهذا يظهر بداية تغير اتجاه دفة القيادة في العالم نحو دول الشرق والدول النامية.
إن أهم أدوات الاستقرار السياسي في الدول هو وجود استقرار اقتصادي وسياسات حكيمة نحو تحقيق تنمية مستدامة تتوازن ما بين الإمكانات الداخلية والاحتياجات الخارجية، دون المساس بالسيادة واستقلالية القرار الوطني، ودون المساومة بالقيم والتقاليد والعقائد الإيمانية.
من دون شك، فإن تعاظم التواجد الروسي في الساحة الدولية، تسبب في إثارة حفيظة بعض القوى الغربية، لذلك حاولت تلك القوى وبشتى الطرق، استخدام أسلوب رخيص في مهاجمة الدور الروسي في الساحة الدولية.
فمثلاً ونتيجة لتزايد زخم الحضور الروسي في افريقيا، قامت بعض القوى الغربية باتهام روسيا أنها تسعى نحو نهب ثروات دول القارة الافريقية، في الوقت الذي يعلم الجميع أن روسيا تمتلك من الموارد ما يفوق احتياجاتها، والبرهان على ذلك قدرتها المدهشة على الصمود في وجه الكم الهائل من العقوبات الغربية، فخلال العامين الماضين، واصل الاقتصاد الروسي نموه، على الرغم من العقوبات واستمرار القتال.
المشكلة هنا أنه وعند التدقيق في الرواية الغربية، ومراقبة سلوك دول الغرب تجاه روسيا، ومنذ نهاية التسعينات، ندرك أن روسيا بإمكاناتها ومواردها، هي ذاتها ضحية للأطماع الغربية، إذ كيف يمكن تفسير مواصلة توسع حلف شمال الأطلسي نحو الشرق؟
ما هو المبرر، ولماذا ترغب روسيا في الحرب مع الغرب، وما الذي ستستفيد من ذلك؟
إن ادراك روسيا خلال العقدين الماضيين، أن أهم سلاح لمواجهة السياسات العدائية تجاهها وتجاه دول كثير أخرى كالصين ودول الجنوب النامي بشكل عام، يكمن في البحث عن مبادرات، وإقامة تحالفات وتجمعات اقتصادية وسياسية وإقليمية، تتمكن روسيا من خلالها تعزيز علاقاتها وكسب المزيد من الأصدقاء والحلفاء، إضافة إلى أن تكون هي ذاتها جسر للتواصل لهذه الدول فيما بينها بما يخدم مصالح الجميع.
إن الفكرة والغاية من المنتديات الاقتصادية التي تستضيفها الأراضي الروسية، تهدف إلى خلف نواة لمجتمع دولي جديد، قائم على تشاركية المصالح واستقلالية القرار والتحرر من الارتهان للآخرين.
ويبقى الاقتصاد، ومساعي تحقيق المزيد من الاستقرار الدولي هدفاً، لا ينبغي أن يكون بعد كل هذه الجهود بعيد المنال.