ما سر التركيز الروسي المتزايد على المجال الاقتصادي خلال الفترة الأخيرة؟

0
6575867567

مساهمة لموقع سيرياليزم

 

إن المراقب لتسارع الأحداث في روسيا خلال الفترة القريبة يدرك أننا مقبلون على اندفاع روسي ضخم في كل المجالات، خصوصاَ في المجال الاقتصادي.

لكن قبل بحث هذا الاندفاع الروسي نحو كل ما له علاقة بالاقتصاد، يجب المرور على مجموعة من الأحداث الضخمة التي جرت في الأيام القليلة الماضي، والتي من الواضح أنها ليست سوى بداية لمجموعة من الأحداث الضخمة التي ستقوم بها روسيا خلال الأشهر المقبلة، وهو أمر يظهر لنا أن أشهر عام 2024 ستكون مليئة بالأحداث الجسام، والتي من دون شك ستلقي بثقلها وستؤثر على الساحة الدولية المتخمة أصلاً بكم من القضايا.

لم يعد من المجدي الحديث بعد اليوم عن عقوبات غربية ومحاولات عزل تمارس ضد روسيا، منذ بداية تدخلها العسكري الاضطراري في أوكرانيا في فبراير 2022، إذ أن هذا الأمر بات عبثياً لدرجة بات كل متحدث غربي لا يزال يعيد الحديث عن مسألة فرض المزيد من العقوبات على روسيا، إما غبي، أو شخص يعيش في عالمه الخاص، فالواضح أن كل المحاولات الغربية للإضرار بروسيا قد فشلت ولم تعطي التأثير الذي حلم به البعض.

بل على العكس، ربما كانت هذه العقوبات حافز أجبر روسيا على الخروج من منطقة الراحة كما يقال، والتي غالباً ما تصيب أي كيان بالكسل والبلادة عندما تطول مدة السكون، وبالتالي دفع الغرب روسيا دون أن يقصد نحو البحث عن كل ما هو جديد، وحتى ازداد نشاط التفكير خارج الصندوق لأول مرة في روسيا منذ عقود، إذ فقد اعتادت البلاد في الغالب على المضي وفق العقلية السوفييتية البائدة.

بطبيعة الحال، نحن لا نقول هنا أن هناك تغير جذري في طريقة التفكير الروسية، لكننا نظن أن ما تحمله الفترة القادمة ستظهر للعالم طريقة فكر روسي متجدد من حيث التعامل مع كل القضايا السياسية والاقتصادية والعسكرية.

إن العقوبات الغربية التي كانت تهدف في المقام الأول لشل روسيا اقتصادياً، واحداث ضربات موجعة في التركيبة المجتمعية الروسية، الأمر الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى ثورة ملونة في روسيا تطيح بالقيادة الروسية، حيث نجد مثلاً السيدة فيكتوريا نولاند تطل علينا من الساحة الحمراء وهي بجانب المتظاهرين، كما فعلت في أحداث ميدان في كييف في 2014!

خاب فأل كل الغافلين في الولايات المتحدة… فذلك لم يحصل، ولن يحصل، لأن روسيا التي يتعاملون معها اليوم هي روسيا مختلفة عن تلك التي كانت في حقبة التسعينات.

في البداية، وبالنظر إلى ما جرى بمجرد تنصيب الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لفترة رئاسية جديدة، بدأت عاصفة من التحركات على أكثر من صعيد.

ففي المجال العسكري، أظهرت روسيا إشارات لم ينتبه إليها أحد خلال الاحتفالات السنوية للنصر على النازية في التاسع من أيار الماضي، فقد عرضت في العاصمة الروسية على هامش الاحتفالات بعيد النصر والعرض العسكري السنوي، والذي شهد حضور عدد من الزعماء والضيوف الدوليين، حيث تم عرض عتاد غربي أوروبي وأميركي من الذي تمكنت القوات الروسية الاستحواذ عليه في جبهات القتال في الدونباس، وقد كان بعض من هذا العتاد بحالة فنية جيدة نسبياً، أي أنه غير مدمر، ربما وجود عطب أوقفه عن العمل، أو ببساطة تركه الأوكرانيون خلفهم وفضلوا فرار، وفي حالات أخرى استسلموا بعتادهم الكامل للقوات الروسية.

إن أكثر ما يثير الضحك، هو “الدقة المعهودة” للإعلام الغربي أثناء تغطيته للأحداث، حيث لاحظ الإعلام الغربي أن العرض العسكري خلا من دبابات روسية حديثة؟

ما هو السبب يا ترى؟

لم يبقى دبابات في روسيا… لقد اضطرت روسيا لإرسال كل ما بقي لديها من دبابات للقتال في أوكرانيا؟

يحاول الإعلام الغربي الضغط، دون أن يدرك، أنه ربما الأوضاع تتجه نحو فتح هناك جبهات جديدة بوجه زالينسكي وأعوانه، إذ قد تشهد الفترة المقبلة مشاهد ستكون أجمل من منظر مسير الدبابات الروسية في الساحة الحمراء.

في الداخل الروسي، وحسب الدستور الروسي، يقوم الرئيس بعد تنصيبه كرئيس، بإجراء تعديلات حكومية وإدارية في طاقمه، هو أمر متعارف عليه في كل دول العالم التي تتمتع بنظام حكم مبني على الانتخاب والبرلمان.

وعليه فإن التعديلات التي يتم الإعلان عنها، تشير إلى أن الفترة الجديدة للرئيس بوتن، تحمل في معالمها نطوير في السياسات الداخلية والخارجية والتي من المتوقع أن تنتهجها روسيا خلال الفترة المقبلة، والمبنية على ثلاث محاور أساسية وهي مواجهة الفساد الذي تسبب بأضرار جسيمة، وإدخال فكر جديد يحدث عدد من النقلات النوعية في عدة مجالات أهمها المجال الاقتصادي، خصوصاً تحديث وتطوير آليات اقتصاد دولة تواجه الآلة الغربية في أوكرانيا منذ 3 أعوام، وبالتالي من الضروري الانتقال إلى تطوير أساليب التعامل مع هذه الحرب المفتوحة بطرق جديدة، إذ يجب أن يكون هناك نقلات نوعية على الأرض، ناهيك عن القيام بخطوات للاهتمام أكثر بالوضع الاقتصادي الداخلي في روسيا، لأن الدولة التي تواجه حرب، يجب عليها تنظيم وتأمين الجبهة الداخلية، ولن يتم ذلك إلا من خلال المزيد من الاصلاحات ومحاربة الفساد وتحسين الظروف المعيشية للشعب الروسي، والذي بات غالبيته يدرك حجم العداء الذي يكنه الغرب لوطنه، ولكل ما يمثله من ثقافة وتاريخ وقيم، إضافة إلى ذلك فحقيقة أن روسيا، حتى وإن لم تلجئ للتحرك العسكري كما هو الحال في أوكرانيا، لن يمضي الكثير من الوقت، حتى يشاهد الروس أعلام حلف شمال أطلسي على مقربة من قراهم ومدنهم في روسيا.

بالحديث عن الاقتصاد، وأهمية التركيز عليه خلال الفترة المقبلة، وعلى الرغم من الظروف التي تعم العالم اليوم، أيقنت السلطات في روسيا، على أهمية استمرار التواصل مع كل الدول الصديقة والدول التي لديها علاقات تاريخية وعميقة معها، سواءاً في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية، حيث بدأت في روسيا نشاطات وتحركات كبيرة مدفوعة بزخم نحو تفعيل التعاون وتعزيز التواصل الروسي مع عدد كبير من دول العالم.

إن لجوء روسيا لفكرة عقد المنتديات السنوية التي تبحث مجموعة من القضايا، يمنحها فرصة مهمة لخلق بيئة جامعة ينضم إليها كل من يسعى نحو تعزيز مصالحه وتكريس تواجده في الساحة الدولية بثقل يضاهي الدول الغربية، والتي اعتادت أن تتعامل مع دول العالم النامي على مبدأ الاستعلاء وفرض الشروط، مع مواصلة سرقة ما تمتلكه هذه البلدان من موارد، دون أن تقدم بالمقابل أي شيء، سوى التهديد والترهيب، وتسليط سوط العقوبات، تحريك الإرهاب، (ذلك الجني النائم الذي يستيقظ فجأة في مكان ما في العالم كل ما بدأت دول كالولايات المتحدة تشعر بورطة أو بتراجع في نفوذها في بقعة ما)؟

لم يعد من المقبول، في هذا الزمن، أن تتعامل الدول التي تصف نفسها بالدول الكبرى الغنية، باستعلاء وانتهازية مع باقي دول العالم، لأن الشعوب في هذا العصر باتت أكثر وعياً ودراية بما يدور حولها من أحداث، وبات من الصعب أن يؤثر أسلوب البروباغندا الذي كان سائداً في بداية القرن العشرين وفي حقبة الحرب الباردة، إذ أن الصورة والواقع اليوم بات يشير بوضوح لكل الحقائق، مهما حاول البعض اللعب عليها أو المناورة حولها.

ومن هذا المنطلق، تعمد موسكو إلى تكثيف حضورها الدولي خصوصاً في المجال الاقتصادي، لأنها تريد التأكيد على أنها لم تتأثر بكل محاولات الإيذاء الاقتصادي والذي لازال الغرب يواصله ضدها، بعد الكم الهائل من العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا.

إن وجود روسيا بحجمها وموقعها الجغرافي، مع غنى البلاد بشتى الموارد التي وضعتها في المراكز الأولى عالمياَ في مختلف الأصعدة، سواءاَ من حيث الغذاء والطاقة، والخبرات البشرية والغنى الثقافي، منحها كل ذلك صفة ريادية يتم تكريسها مع جهود دول أخرى لإصلاح النظام العالمي الذي أخذ شكلاً منحرفاً منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.

إن اعتماد روسيا على تكثيف النشاط الديبلوماسي، وتعزيز التعاون الاقتصادي مع مختلف دول العالم، أحدث المطلوب من حيث ترسيخ قيمة روسيا عالمياً، بحيث بات أي حديث أو محاولة عزل، لا تتعدى سوى هراء يخرج من أفواه لا تدرك شكل العالم الذي باتت تعيش فيه اليوم.

إن من ضمن أدوات تعزيز التواجد، تم تكريس استضافة روسيا للمؤتمرات والأحداث العالمية، والتي يركز جلها على الشق الاقتصادي، لأنه العامل الأساسي لتثبيت قيمة الدول والشعوب في العالم، وإذا كنا نستعير أحد مفاهيم الرأسمالية الغربية، والتي يتفاخر بها الغرب، نجد دول كروسيا والصين مثلاَ هي التي تطبق ذلك المبدأ كما كان يجب أن يكون، فهو مبني على أساس حصولك على قدر ما تقدم.

الغرب يريد كل شيء دون يقدم شيء في المقابل، هذا المبدأ لم يكن مبدأ شيوعي ولا مبدأ أخترعه الروس، لكنهم اليوم من خلال سياساتهم وأسلوب تعاونهم الاقتصادي في العالم نجدهم يطبقون هذا المبدأ كما يجب أن يكون.

إن العالم اليوم يشهد تكتلات كبرى، اقتصادية في أساسها، فنحن اليوم نجد مجموعة كبريكس، تواجه مجموعة الدول السبع على سبيل المثال، وأيضاً تسعى روسيا نحو توفير فرص لتعزيز التواصل بينها وبين باقي الدول العالم، وهنا جاءت الحاجة نحو المنتديات الاقتصادية التي توفر منصة مهمة لتعزيز التواصل وإيجاد حلول للتحديات التي تواجه اقتصادات دول العالم والاقتصاد العالمي ككل.

ومن هنا، تستعد مدينة سان بطرسبورغ الروسي، خلال الشهر القادم استضافة النسخة السابعة والعشرين من المنتدى الاقتصادي الدولي، والذي بات خلال العقدين الماضيين أحد أهم المناسبات الاقتصادية الدولية، والذي أظهر قدرات روسية التنظيمية للأحداث الدولية، والتي نجحت روسيا بها نجاحاً بالعلامة الكاملة، سواء كانت مناسبات سياسية أو اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، فنية ورياضية.

وعلى هذا الأساس، تبلورت فكرة دمج الانجازات المحلية وتقديمها ضمن حدث سنوي يوفر فرص تبادلية كبيرة بين روسيا وبين باقي دول العالم، من حيث الاستفادة من كل ما يمكن أن تقدمه روسيا، وفي المقابل تجد الدول الاخرى فرصة لتقديم ما لديها، وهنا نجد مفهوم التعاون والدولي مكرساً، وهو ما يؤكده استمرار وجود هذا المنتدى على رزنامة الأحداث الاقتصادية العالمية، والمنتدى في عامه السابع والعشرين سيكون امتداداً لنجاح المنتدى خلال الأعوام الماضية.

إن تواجد روسيا المستمر في الساحة الدولية اليوم بات مؤشر على تغير موازين القوى في العالم، إذ باتت الكفة ترجح شيئاَ فشيئاً نحو الدول التي كان تحت نير الاستغلال الغربي لعقود طويلة مضت، واليوم والأمثلة عديدة، ها هي تضع نفسها في مركز الند، وإذا كانت روسيا من الدول التي توفر لهذه الدول الصاعدة تلك الفرصة، فهي تكون قد برهنت من جديد على أحقية مسعاها الذي يشاطرها به العديد، نحو بنية عالمية أكثر توازن، لأنه لم يعد من المقبول تحمل فرض دول كبرى لإملاءات دون أن يكون هناك أثمان تدفع مقابل تلك السلطة الزائفة التي تستغلها تلك الدول منذ عقود أسوأ استغلال، ولدينا التاريخ الذي يقدم لنا الدلائل والبراهين على ذلك، حتى أن منها ما هو متاح وموثق بالصوت والصورة.

إن التركيز الروسي على الاتجاه الاقتصادي خلال المرحلة المقبلة، سيتكرس كواقع ملموس قريباً، فالأحداث التي ستستضيفها روسيا خلال الفترة المقبلة والتي تأتي متتابعة على نحو بديع، سترسم لكل المراقبين في العالم، كيف سيكون شكل العالم خلا المرحلة المقبلة، سيما بعد أن نشهد انهيار حقبة سطوة طغاة ظلوا يخدعون العالم لسنوات بصورة ملاك مزيف.

Share it...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *